الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة في كتاب "السينما التونسية.. بالأمس واليوم" لطارق بن شعبان: رصد لتاريخ القطاع السينمائي التونسي وللاحداث الفارقة التي أثّرت على مساراته

نشر في  06 أفريل 2022  (11:55)

يرصد طارق بن شعبان في كتابه "السينما التونسية.. بالأمس واليوم" الصادر باللغة الفرنسية تحت عنوان "Le cinéma tunisien… D’hier et d’aujourd’hui" أحوال السينما التونسية منذ الاستقلال الى غاية يومنا هذا. و يشدّك الكتاب بما فيه من تفاصيل ينقلها طارق بن شعبان بقلم الراوي العليم الذي يسرد فصولا وحيثيات ويقدّم قراءات تحوصل الخطوط الكبرى لتاريخ القطاع السينمائي في تونس وأيضا الاحداث الفارقة التي دفعت بالسينما التونسية الى ما هي عليه اليوم.

وينطلق الكتاب، وهو من منشورات المركز الوطني للسينما والصورة، بفعل سوسيولوجي يربط بين السينما والتاريخ الاجتماعي والسياسي لتونس حيث يرى طارق بن شعبان انّ الافلام التونسية الاولى كانت بمثابة المرآة العاكسة لخطابات بناة الدولة الحديثة والتي تظهر فيها شخصية الأبطال (في فيلم "الفجر" لعمار الخليفي (1966) مثلا) ساعية لبناء الدولة وحاملة لنفس تحرري في اطار جماعي.

واعتبر الكاتب أنّ البرامج السردية للأفلام التونسية بُنيت وفق ثلاث أنظمة مختلفة وهي أنظمة "الواجب" (بناء الدولة، حمل راية المجموعة والبحث عن خلاص المجموعة) و"الارادة" (محاولة الانعتاق من سلطة المجموعة من غير الاقدام على قطيعة راديكالية مما قد يتسبب في التهميش او التراجيديا) و"الكينونة" (الشخصية لم تعد متأصلة بل مهتمة بتلبية رغباتها الشخصية).

ومقابل الافلام التي استبطنت السردية الوطنية الكبرى، سعت افلام اخرى للتخلص من فكرة "الواجب" وعملت على ابراز مجموعات تعيش تحت السيطرة مثل متساكني الارياف ("وغدا" لابراهيم باباي سنة 1971) والنساء ("فاطمة 75" لسلم بكار و"عزيزة" لعبد اللطيف بن عمار سنة 1973) والقرويّين ("شمس الضباع" لرضا الباهي سنة 1975) والشباب ("الهائمون" للناصر خمير سنة 1984) والمثقفين ("عبور" لمحمود بن محمود سنة 1982).

وتسبب انهيار اديولوجيات الوحدة العربية والوحدة الافريقية، وفق الكاتب، في ظهور فاعل جديد وهو الفرد الذي صار يبتعد عن المشاريع الجماعية مما دفع الى ظهور سينما "الارادة" التي تنقل هذه القصص المتفردة لأبطال منشقين ومنبوذين ومختلفين. ومن بين الافلام التي تجسد هذا التمشي "ريح السد" (1986) وصفائح من ذهب (1989) للنوري بوزيد وصمت القصور (1994) لمفيدة التلاتلي وحلفاوين لفريد بوغدير (1990)، وقدّم طارق بن شعبان في هذا السياق قراءات دقيقة في علاقة بالشخصيات وأهدافها ومساراتها معتبرا انّ هذه الافلام جسّدت قصص "انتفاضات غير ناجحة لكنها حقيقية".

اما النظام الثالث والذي أطلق عليه الكتب اسم "سينما التحرر" فكانت بداياته انطلاقا من الالفينيات، ويضم أفلاما على غرار "موسم الرجال" لمفيدة التلاتلي (2000) وعرائس من طين للنوري بوزيد (2002) و"نغم الناعورة" لعبد اللطيف بن عمار (2002) وخشخاش لسلمى بكار (2005) وغيرهم.

وفي سياق معرضه السينمائي في منحاه الروائي، أشار طارق بن شعبان الى خصوصية ميّزت السينما التونسية في الالفية الجديدة وهي "عدم القدرة على التواصل"، من خلال ابراز ابطال مضادين يعانون من الضياع وبعدم التأقلم مع راهنهم، تُحركهم في نفس الوقت رغبات فجّة وغرائزية، وضرب الكاتب امثلة لأفلام جسدت هذا التمشي على غرار "كول التراب" لنضال شطا (2000) و"الستار الاحمر" لرجاء لعماري (2001) و"الكتبيّة" لنوفل صاحب الطابع (2002) و"خرمة" لجيلاني السعدي (2002). وانطلاقا من 2010، قدّم الكاتب قراءة لأبرز الافلام الروائية التي تم اخراجها من خلال استحضار أكثر من 20 فيلما عكست مقاربات وتيمات مختلفة على غرار " بيك نموت" للنوري بوزيد (2012) وهادي لمحمد بن عطية (2015) و"اخر واحد فينا" لعلاء الدين سليم (2016) و"شرش" لوليد مطار (2017).

وفي قسم ثاني من الكتاب خُصص للفيلم الوثائقي، اعتبر طارق بن شعبان انّ هذه النوعية التسجيلية من الافلام ظلّت مهمشة ولم تعرف انطلاقة حقيقة الا مع مجئ الثورة والتي مثلت بدورها التيمة الرئيسية لعدد من الافلام. واضاف الكاتب انّ التغيير السياسي الذي عرفته البلاد اثر سقوط نظام بن علي سمح باعادة تملك الواقع من خلال التصوير في الفضاء العام وتقديم صور مغايرة عن الصور التي كانت مسيطرة ان لم نقل مُهيمنة.

ومن خلال قراءة لعدد من الافلام الوثائقية منها ما انجز قبل الثورة ("رايس الابحار" لهشام بن عمار(2002) و"في-اش-اس كحلوشة" (2006) و"صمت" لكريم سواكي (2007) وبعدها ("كلمات حمراء" لالياس بكار (2011) و"يلعن بو الفسفاط" (2012) و"لا خوف بعد اليوم" لمراد بالشيخ و"بابيلون" لاسماعيل وعلاء الدين سليم ويوسف الشابي (2012) و"نحن هنا" لعبد الله يحي (2012) و"مناضلات" لسنية الشامخي (2012) و"القرط" لحمزة العوني (2013) وغيرها)، اعتبر الكاتب انّ هذه الافلام رفعت تحدي الهامش والسياسة والنضالات المنسية واختلاف وجهات النظر كما تضمن بعضها شعرية مردّها التخلي عن الايديولوجيا وفتح المجال لكتابة ما يطفو على الانظار وما يخالج صدور المواطنين العاديين من خيبات وهشاشة وعنف مستبطن ورغبات تحرر.

أما الجزء الثالث والاخير للكتاب، فقدّم فيه الكاتب مقاربة مؤسساتية (1960- 2016) تطرقت للميكانيزمات الاجتماعية التي هيكلت حقل الانتاج السينمائي. فما الذي جعل السينما التونسية تتواجد؟ ومن اي شرعية تستمد قيمتها الحيوية؟ ويعود الكاتب الى القوانين المؤسسة واولها قانون 60-19 الصادر في 17 جويلية 1960 الذي ينظم الصناعة السينمائية كما للاباء المؤسسين على غرار الطاهر شريعة ونضاله من اجل تحرير الشاشات من سطوة السينما الغربية وتكوين الشركة التونسية للانتاج والتنمية السينمائية (SATPEC) سنة 1960، وعلاقة ذلك ببناء الدولة الوطنية اثر الاستقلال ومعها مسألتي تثبيت الهوية والسيادة التونسية.

هذا وتطرق الكاتب الى دور جامعتي السينمائيين الهواة ونوادي السينما في الدفاع عن خيارات سينمائية مناقضة لما يُعرف بـ"سينما الترفيه" ومناهضة للامبريالية والتبعية الاقتصادية ومواقفها المبدئية المستقلة عن السلطة ضاربا مثال مقاطعة الجامعتين لأيام قرطاج السينمائية لسنة 1978 اثر الاحداث العنيفة التي شهدها البلاد في جانفي 78 اثر المواجهة بين السلطة الحاكمة واتحاد الشغل واعلان هذا الاخير يوم الخميس 26 جانفي يوم اضراب عام.

وبفضل عمل دقيق على الارشيف السينمائي، كشف الكاتب عن تفاصيل عديدة عكست حدّة التجاذبات التي ميّزت قرابة الخمسين سنة من التاريخ السينمائي التونسي ومنها رفض لجنة الدعم منح تمويلات لانتاج افلام سنة 1999 بينما كان من بين المشاريع المقدمة سيناريوهات للمخرجين ناجية بن مبروك ومنصف ذويب وناصر خمير، والرسالة الغاضبة التي كتبها انذاك المنتج أحمد بهاء الدين عطية –الذي لعب دورا محوريا في تطوّر السينما التونسية- ونُشرت في صحيفة "لوطون" واثار فيها عطيّة عددا من المشاكل التي يعاني منها القطاع السينمائي من اجل ان تستعيد السينما بريقها –وكانت السينما التونسية شهدت فترتها الذهبية (بين سنة 1985 و1995) مع ريح السد (1986) وصفائح من ذهب (1989) للنوري بوزيد وصمت القصور (1994) لمفيدة التلاتلي و"حلفاوين" (1990) لفريد بوغدير.

ومن خلال عدد من الشهادات، تعرض الكاتب لمعضلة الكتابة السيناريستية وحتمية تنويع مصادر التمويل وضغط المنتجين الاجانب وتدخلهم في المضامين السينمائية فضلا عن مسألة الرقابة، ونقل الكاتب تصريحا للمنتج نجيب عياد اعتبر فيه انّ لجنة الدعم السينمائي أضحت منذ سنة 2004 والى غاية 2008 لجنة للرقابة وقد رفضت سنة 2007 دعم سيناريوهات للنوري بوزيد ومفيدة التلاتلي بتعلّة مسهما للاخلاق او الدين.

ويمثل كتاب "السينما التونسية.. بالأمس واليوم" لطارق بن شعبان والذي تٌرجم للاسبانية في انتظار ترجمته للعربية، مرجعا هاما لمن يريد الاطلاع على تاريخ تشكل القطاع السينمائي التونسي في جانبه المؤسساتي فضلا عن مراجعة لأكثر من 100 فيلم تونسي من ناحية التيمات، تم التطرق لها بأسلوب موجز، ممتع وبليغ يعكس شغفا عميقا بعالم السينما والتونسية بالخصوص.

شيراز بن مراد